اللغة الوظيفية تتمثَّل في طريقةالتواصل بين البشر، وبين مكوَّنات المجتمع القائم على التشاركيِّة والتفاعليِّة، لنقل الأحداث والمعلومات، وإظهار المشاعر؛ نظرًا لوجود عنصر الخيال المستخدم في تكوين إبراز الفكرة عند المتكلِّم، والترويج لها؛ لما له من قيمة في معالجة بعض القضايا الاجتماعية المختلفة، وتظهر القيمة المثلى للأخيلة في الشعر؛ لأهميّتها.

تأثير اللغة الوظيفية على مفاهيم المجتمع

تأثيرها في تغيير مفاهيم المجتمع؛ لذلك يجب أن يولي الشاعر أهمية بالغة للنص الشعري؛ كي ينجحَ في تأثيره في المتلقيّ، وهذا ما أولاه البلاغيُّون العرب القدامى منزلة كبرى في تكوين التأثير، وحسن التخلص بالحوار المفضي للقناعة.

فأوجدوا مصطلح مطابقة الكلام لمقتضى الحال؛ وبذلك عُدُّوا السباقين لبيان النظريَّة البنيوية، ولعلم اللسانيَّات، قبل الغربييِّن بقرون عدة؛ وبهذا المعنى عَدَّ عالم اللسانيات «دو سيسيور» اللغة نتاجًا اجتماعيًّا، ونظامًا في العلاقات، لأجل ذلك ركّز علماء البنيويّة الأمريكيّة على الجانب الوظيفي للغة.

والذي ينبني على ثلاثة عناصر، «المتكلِّم، والمتلقيِّ، ونصِّ الخطاب»، وفق عالم اللسانيات «رومان جاكبسون»، الذي يرى أيّ حدث لغويّ تواصليّ يجب أن يتضمّن هذه العناصر، وهذا الاتجاه النقدي لمعالم المجتمع تبدى واضحًا في نظرة الشاعرة سعاد الصباح في ديوانها الشعري «في البدء كانت الأنثى».

عناصر وظيفة اللغة

في المقاربة بين قصائد الديوان وبين نظرية جاكبسون في عناصر الجانب الوظيفيِّ للغة «يظهر صوت الشاعرة المفنِّد لرأي الرجل ولهيمنته، بضمير المتكلم المُعمَّم في الديوان، وهذا هو العنصر الأول من عناصر وظيفة اللغة.

فيما يظهر المجتمع الذكوري، وإقصاؤه دور الأنثى في الحياة كاملة، هو المتلقي، أما نص الخطاب، هو القصائد الشعرية الانفعالية الرافضة لهذه الفكرة القائمة على إثبات روحانية الأنثى، ورفض ازدرائها، فتلاحظ هيمنة التحدي في كلمات القصائد كلّها».   

في الديوان ازدواجية مرسلة بمعيارين، الأول رفض مطلق بتمرِّد كثيف لمنطق الرجل الإقصائيّ، فتنفض عن جناحيها نظرة النقص السوداوية بثقة المرأة المعتدَّة بنفسها، والمعيار الثاني حبٌّ مهووس لرجل تعشقه، وتتفانى في الإخلاص إليه، فتهواه أن يزرعها بين الكلمات، ثم تسبح فوق الغيم، وتشرق بإشراقة شمس، وتنسلُّ في الفضاء كقمر منير.

فتحمل عاشقها كأنثى الكنغارو، تقفز به من شجرة إلى أخرى، ثم تستحم برائحة عرق صدر الرجل، وتقاسمه شرب القهوة المعتقة، فتحبُّه حبًّا عنيفًا مثيرًا، وتشدو باسمه كثيرًا؛ لكنها لا تسمح للقبيلة أن تتدخَّل بين القلب والقلم، وبين الكلمة وبين الحبّ، هكذا أرادت تغيير وجه الجميع، وأن تثور على المنتقصين باستغراب واستهجان.

أقوال الرجال عن النساء في القصائد

الصدقُ المميَّزُ بين طيَّات حروفها، أثرى التواصل الخطابيّ بينها وبين المجتمع، بشحنات عاطفيّة، تميَّزت بالاستغراب والدهشة من الرفض والنقص، اللذين يلحقهما الرجل بالأنثى، في مجال الكتابة والشعر والكلام، لكنّها لا تقيم وزنًا لهذه الترهات وهذه المزاعم، وتمضي في رحلة لسانها مع الشّعر، وتلقي أقوال الرجل عن الأنثى عرض الحائط:

يقولــــــون، إنّ الكتابة إثــــمٌ عظيـــم …فلا تكتبي!

وإن الصلاة أمام الحروف … حرامٌ… فلا تقربي!

يقولــــــون؛ إن الكلام امتياز الرجــال …فلا تنطقي!!

وإنّ التغزُّل فنُّ الرجــــال …فلا تعشقي !!

وإن الكتابة بحرٌ عميق المياه…فلا تغرقي!!!

الميزان الشعري في القصائد

فترفد هذا الاستغراب المباشر، والدائم لدونية المرأة، ببرهان موثَّق، في تحدٍ ظاهرٍ قاصدته في الميزان الشعري، وفي الكلام الرصين، مفنَّدة حجج المجتمع الرجولي لانتقاص قيمة المرأة في مواطن الإبداع:

“وها أنـــــذا قد شـــربتُ كثيرا!

 فلم أتسمّم بحبر الدواة على مكتبي!

 وها أنـــــذا … قد كتبتُ كثيــــرا!

 وأضرمت في كل نجم حريقا كبيرا!

 فما غضب الله يوما عليّ!

ولا أســتاء مني النبيّ!”

وعكفت في هذا الرفض وفرض القناعة إلى السحر البلاغي لمكانة الأحرف والتكرار، فتستخدم المؤكدات بالحرف «إنّ» للتشبيه والتأكيد على ثبات المعنى، وأسهم «هاء التنبيه» في تكريس نظرة الشاعرة لرفض ماهية التشويه، والتهميش لصورة المرأة.

يقولـــون؛ إن الأديبات نوعٌ غريبٌ من العشب …

 ترفضه الباديهْ…

وإنَّالتي تكتب الشعر…ليســت سوى غانيـــهْ!!  

وأضحك من كلّ ما قيل عنّى!

وأرفض أفكار عصر التنك!

 ومنطق عصر التنك!

 وأبقى أغنّى على قمتي العاليهْ

 وأعرف أنّ الرعود ستمضي …

وأنَّالزوابع تمضي، وأنّ الخفافيش تمضي!!!

 وأعرف، أنّهم زائلــــــــون، وأنّـــــى أنا الباقيـــــــــهْ.

هنا مدخل المقدرة نحو التغيير؛ فيظهر الأنا النفسي محورًا عند الشاعرة، نحو القدرة في تبدّل المنطق، والثبوتيّات السلبيَّة، ففي المقطع السالف تمكين ضمير المتكلم «أنا» معتلية الشاعرة به منبر الرفض.

والتفنيد المنطقي لحجج المجتمع الرجولي القائمة على التمييز الدوني لها في قصائد الديوان قاطبة، ويتجلّى ضمير المتكلم «ي» والفعل المضارع الدال على الاستمرارية، والحضور (أضحك، أغني، أرفض، أبقى، أعرف) داعمًا لها لتبني نظريتها الرافضة والمسكتة.

وهذا ديدنها في التعبير عن المقدرة في الرفض، وفي امتلاكها العواطف الذاتية، ووجدانية يحدوها الأمل في امتلاك تغيير الواقع المأساوي للأنثى في رسالتها الانفعالية لعامة الدونيين.

أخذت الشاعرة منطلق رمزية الحال للظروف الاجتماعية المحفوفة بالذعر والخوف، والمصير المظلم، الذي ينتظر المرأة من هؤلاء الخفافيش، وهم الوشاة والجواسيس، الذين يراقبون النساء ويوقعونها بالعثرات، وينفونها إلى مستنقع رذيلة المجتمع.

بصورتها المُغبّرة بغبار الفضيحة والعار أمام السلطة الحاكمة، التي تصدر القوانين، وتحدُّ شخصية المرأة، والتقوقع في خدرها المسجون، وحينها أشاحت الشاعرة اللثام عن وجهها، ووقفت مجاهرة برأيها لهذا الرفض، وتصدت للقهر والخنوع، وأنَّها تزاول مهنتها بكلِّ فخر واعتزاز، لكنّ طريقها إلى ذلك وعرٌ، ومحفوفٌ بالمخاطر الجمَّة.

في قصيدة رجل تحت الصفر

 يا هولاكو هذا العصر،

ارفعْ عني سيفَ القهرِ

 إنك رجلٌ سوداويٌّ

مأساويٌّ…عدوانيٌّ.

هولاكو الزمان السحيق الموغل في القدم، اختارت الشاعرة هنا شخصية لا عربية، ولا إسلامية، فقد استعارت من التاريخ هذه الشخصية المعبِّرة عن نظرة الرجل للمرأة من قبل الإسلام في العصور الجاهلية الأولى؛ لتؤكِّد أن النظرة الدونيّة والعدوانيّة الشرسة نحو المرأة ملتصقة بها منذ الأزل.

 يا هولاكو الأول…

يا هولاكو الثاني…

يا هولاكو التاسع والتسعون… لن تدخلني بيت الطاعة!

 فأنا امرأة تنفر من أفعال النهي!

وتنفر من أفعال الأمر!

لكنها، وإن سلَّت سيف الرفض الذكوري، وفضحت طبيعته، وأسدلت الستار عن المشي تحت إبطه، وتحت حاجبيه المُقضَّبين، هي لا تتواني أن تظلّ عاشقة محبّة، لا بل ومتفانية في هذا الحبّ الأبديّ، الذي لا يُضارعه حبٌّ، وهذا الحبُّ العارم عندها موجَّه للرجل الزوج، أو الرجل الأب، الذي أعطاها صفة الأميرة.

وهذه المزاوجة بين رفض أمر الرجل، القائم على التهكُّم والتهميش والانتقاص، وبين حبه اللا منتهي، وعشقه المسترسل، تقيم ميزان العدل في القيمة التعايشية بينها، وبينه في صورة الهيام والوجد المطلق، وتقيم بذلك صفة العدل الإلهي.

التي أوجدها الله للأنثى، فقد عاب واستهجن الله تعالى نظرة الرجل البدويّ للأنثى ومقتها مقتًّا شديدًا، {وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ  يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُون}.

قصيدة إلى واحد لا يسمى

أسمّيكَ…رغم اقتناعي بأنك لست تُسمَّى-حبيبي.

أسمّيكَ: رغم احتجاج قريش-حبيبي-

ورغم احتجاج كليب-حبيبي-

وأعرف، أن قراءة عينيك

مثل قراءة علم الغيوب…

وهنا حب بذوبان الذات في الآخر الذي لا يماثله حبٌّ:

يا أكثر من حبيبي….

عادية…كلّ التعابير التي أقولها

عن حبك العظيم…يا حبيبي.

فهل هناك كلمة ثانية؟

لم يكتشفها أحد

تخرجني من ورطتي

يا ملك الملوك.

هل توجد ازدواجية في المعايير بشخصيتها؟

على خلاف ما أسلفت من ندية الشاعرة للرجل ومحاربته، والانفعال ضد أفكاره، نرى جانبًا مختلفًا عند الشاعرة في الأبيات السابقة، فهل الشاعرة تبدِّل آراءها هنا، حتى تكون غير صادقة بنظريتها المعارضة؟ وهل توجد ازدواجية في المعايير بشخصيتها؟

والحق يُقال، هنا تنتفي ازدواجية الشخصية عندها، في الرفض، والحب المتعلق بالرجل، بل هي أصدق ما تكون، فحين يتطلب الأمر رفض رأي سوداويٍّ للمرأة، ولقيمتها في الحياة، ترفض هذه النظرة والميزة من الرجل، لكنها هي أنثى، تشارك الرجل الحياة في الحب، ويبنيانها سويا، فهي عارفة سر العلاقة الزوجية.

والحب الجنوني للرجل، لكن دون ازدراء، أو تهميش لها ولقيمها، فهي محبة له ومطيعة لأوامره؛ لأنها زوجة وحبيبة، وهذا دورها المنطقي في الحياة، لكنها ترفض الاستكانة والدونية منه، وهذا هو العدل في المعاملة، وهي رسالة واضحة لكل بنات جنسها، أن يَحْذَوْنَ حذوها في المعاملة الراقية الهادفة البناءة، وهذا الحب الديمومي مستمر، منذ أن كانت طفلة، فهي العاشقة للرجل، وهذا مثار الإيجاب في شخصيتها، ونظرتها إلى الرجل العادل في تقييم وجودها تقول:

عندما كنتُ طفلة…

كنتُ أتصور أن الشجرة

هي أعلى مكان في العالم…

وعندما أصبحتُ امرأة

وتسلقتُ على كتفيكَ

عرفتُ، أنك أكثر ارتفاعا من كل الشجر…

وأن النوم بين زراعيك…

لذيذ … لذيذ…

كالنوم تحت ضوء القمر…

في قصيدة يوميات قطة

في قصيدة يوميات قطة يصبح الرجل عندها نعمة لا تدانيها نعمة فهو مانحها الهدوء والراحة والسعادة، تقضي الحياة بصحبته، وتمضي الأيام والساعات معه دون كلل أو ملل، فرسالة الشاعرة إلى محيطها الاجتماعي واضحة وجلية.

فهي المرأة العفيفة الطاهرة المحبة، وهذه هي فطرتها التي جبلت عليها وفطرة النساء جميعًا، ما أعطاها بعدًا محوريًا ناضجًا لسيرورة الحياة التشاركية إلى جانب الرجل، تقول في قصيدة رائحة:

عندما أودعك في المطار

ويغيب وجهك في المجهول

تنتشر رائحة حنيني إليك

 ويشم الناس في قاعة المسافرين رائحة غريبة

رائحة امرأة تحترق…

هذه الروح السامية بالعشق والغرام، وهذا التمرد المفضي إلى وجود امرأة ثائرة لحقها المنطقي في الحياة، أرادت تدوينه في أسفار مكتبة الرجل الشرقي المتفرّد في الحياة والفعل، تسعفها ذلك بساطة الكلمة، ودقة التعبير، والبعد الرمزي العميق، وغرفها الجمُّ من بحور الصور البيانية، والمحسنات البديعية المختلفة.

والغوص العميق في الصنعة الأدبية، ما يلاحظه قارئ الديوان أن القصيدة عند الشاعرة، هي قصيدة توثيق ودفاع أكثر منها لقصيدة الشعر، وهذا ما أعطاها قوة في القبول بين الأوساط المجتمعية، تسعفها الرصانة اللغوية، والأسلوب الشعري القوي المتين واللغة الواضحة بعيدة عن التكلُّف، والرمزية الغامضة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *